الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» **
ولما ولي سيف الدين منكوتمر النيابة وكان مختصاً بالسلطان استولى على الدولة وطلب من السلطان أن يعهد له بالملك فنكر ذلك الأمراء وثنوا عنه السلطان فتنكر لهم منكوتمر وأكثر السعاية فيهم حتى قبض على بعضهم وتفرق الآخرون في النواحي. وبعث السلطان جماعة منهم سنة سبع وتسعين لغزو سيس وبلاد الأرمن كان منهم بكتاش أمير سلاح وقرا سنقر وبكتمر السلحدار وتدلار وتمراز ومعهم الألفي نائب صفد في العساكر ونائب طرابلس ونائب حماة ثم أردفهم بعلم الدين سنجر الدوادار. وجاءت رسل صاحب سيس وأغاروا عليها ثلاثة أيام واكتسحوها. ثم مروا ببغراس ثم بمرج إنطاكية وأقاموا بها ثلاثاً ومروا بجسر الحديد ببلاد الروم. ثم قصدوا تل حمدون فوجدوها خاوية وقد انتقل الأرمن الذين بها إلى قلعة النجيمة وفتحوا قلعة مرعش وحاصروا قلعة النجيمة أربعين يوماً وافتتحوها صلحاً وأخذوا أحد عشر حصناً منها المصيصة وحموم وغيرهما. واضطرب أهلها من الخوف فأعطوا طاعتهم ورجع العساكر إلى حلب. وبلغ السلطان لاشين أن التتر قاصدون الشام فجهز العساكر إلى دمشق مع جمال الدين أتوش الأفرم وأمره أن يخرج العساكر من دمشق إلى حلب مع قفجق النائب فسار إلى حمص وأقام بها. ثم بلغهم الخبر برجوع التتر ووصل أمر السلطان إلى سيف الدين الطباخي نائب حلب بالقبض على بكتمر السلحدار والألفي نائب صفد وجماعة من الأمراء بحلب بسعاية بكتمر. وحاول الطباخي ذلك فتعذر عليه وبرز تدلار إلى بسار فتوفي بها وأقام الآخرون. وشعروا بذلك فلحقوا بقفجق النائب على حمص فأمنهم وكتب إلى السلطان يشفع فيهم فأبطأ جوابه. وعزله سيف الدين كرجي وعلاء الدين أيدغري من إجارتهم فاستراب وولى السلطان مكانه على دمشق جاغان فكتب إلى قفجق بطلبهم فنفروا وافترق عسكره وعبر الفرات إلى العراق ومعه أصحابه بعد أن قبضوا على نائب حمص واحتملوه. ولحقهم الخبر بقتل السلطان لاشين وقد تورطوا في بلاد العدو فلم يمكنهم الرجوع. ووفدوا على غازان بنواحي واسط وكان قفجق من جند التتر وأبوه من جند غازان خصوصاً. ولما وقعت الفتنة بين لاشين وغازان وكان فيروز أتابك غازان مستوحشاً من سلطانه فكاتب لاشين في اللحاق به واطلع سلطانه على كتبه فأرسل إلى شاه نائب حران فقبض على فيروز وقتله وقتل غازان أخويه في بغداد والله تعالى أعلم.
كان السلطان لاشين قد فوض أمر دولته إلى مولاه منكوتمر فاستطال وطمع في الاستبداد ونكره الأمراء كما قدمناه فأغرى السلطان بهم وشردهم كل مشرد بالنكبة والإبعاد. وكان سيف الدين كرجي من الجاشنكير ومقدماً عليهم كما كان قرا سنقر مع الأشرف. وكان جماعة المماليك معصوصبين عليه. وسعى منكوتمر في نيابته على القلاع التي افتتحت من الأرمن ببلاد سيس فاستعفى من ذلك وأسرها في نفسه وأخذ في السعاية على منكوتمر وظاهره على أمره قفجي من كبار الجاشنكيرية. وكان لطقجي صهر من كبار الجاشنكيرية اسمه طنطاي أغلظ له منكوتمر يوماً في المخاطبة فامتعض وفزع إلى كرجي وطقجي فاتفقوا على اغتيال السلطان. وقصدوه ليلاً وهو يلعب بالشطرنج وعنده حسام الدين قاضي الحنفية فأخبره كرجي بغلق الأبواب على المماليك فنكره ولم يزل يتصرف أمامه حتى ستر سيفه بمنديل طرحه عليه. فلما قام السلطان لصلاة العتمة نحاها عنه وعلاه بالسيف. وافتقد السلطان سيفه فتعاوروه بسيوفهم حتى قتلوه وهموا بقتل القاضي ثم تركوه. وخرج كرجي إلى طقجي بمكان انتظاره وقصدوا منكوتمر وهو بدار النيابة فاستجار بطقجي فأجاره وحبسه بالجب ثم راجعوا رأيهم واتفقوا على قتله فقتلوه. وكان مقتل لاشين في ربيع سنة ثمان وتسعين وكان من موالي علي بن المعز أيبك فلما غرب للقسطنطينية تركه بالقاهرة واشتراه المنصور قلاوون من القاضي بحكم البيع على الغائب بألف درهم وكان يعرف بلاشين الصغير لأنه كان هناك لاشين آخر أكبر منه وكان ولما قتل اجتمع الأمراء وفيهم ركن الدين بيبرس الجاشنكير وسيف الدين سلار أستاذ دار وحسام الدين لاشين الرومي وقد وصل على البريد من بلاد سيس جمال الدين أقوش الأفرم وقد عاد من دمشق بعد أن أخرج النائب والعساكر إلى حمص وعز الدين أيبك الخزندار وبدر الدين السلحدار فضبطوا القلعة. وبعثوا إلى الناصر محمد بن قلاوون بالكرك يستدعونه للملك فاعتزم طقجي على الجلوس على التخت واتفق وصول الأمراء الذين كانوا بحلب منصرفين من غزاة سيس وفيهم سيف الدين كرجي وشمس الدين سرقنشاه ومقدمهم بدر الدين بكتاش الفخري أمير سلاح فأشار الأمراء على طقجي بالركوب للقائهم فأنف أولاً ثم ركب ولقيهم وسألوه عن السلطان فقال قتل فقتلوه. وكان كرجي عند القلعة فركب هارباً وأدرك عند القرافة وقتل ودخل بكتاش والأمراء القلعة لحول من غزاة سيس. ثم اجتمعوا بمصر وكان الأمر دائراً بين سلار وبيبرس وأيبك الجامدار وأقوش الأفرم وبكتمر أمير جندار وكرت الحاجب وهم ينتظرون وصول الناصر من الكرك وكتبوا إلى الأمراء بدمشق بما فعلوه فوافقوا عليه ثم قبضوا على نائبها جاغان الحسامي. وتولى ذلك بهاء الدين قرا أرسلان السيفي فاعتقل ومات لأيام قلائل فبعث الأمراء بمصر مكانه سيف الدين قطلوبك المنصوري. ثم وصل الناصر محمد بن قلاوون إلى مصر في جمادى سنة ثمان وتسعين فبايعوا له وولى سلار نائباً وبيبرس أستاذ دار وبكتمر الجو كندار أمير جندار وشمس الدين الأعسر وزيراً وعزل فخر الدين بن الخليلي بعد أن كان أقرة وبعث على دمشق جمال الدين أقوش الأفرم عوضاً عن سيف الدين قطلوبك واستدعاه إلى مصر فولاه حاجباً وبعث على طرابلس سيف الدين كرت وعلى الحصون سيف الدين كراي وأقر بليان الطباخي على حلب وأفرج عن قرا سنقر المنصوري وبعثه على الضبينة ثم نقله إلى حماة عندما وصله وفاة صاحبها المظفر آخر السنة وخلع على الأمراء وبث العطايا والأرزاق. واستقر في ملكه وبيبرس وسلار مستوليان عليه والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده.
قد كنا قدمنا ما كان من فرار قفجق نائب دمشق إلى غازان وحدوث الوحشة بين المملكتين فشرع غازان في تجهيز العساكر إلى الشام وبعث شلامش بن أمال بن بكو في خمسة وعشرين ألفاً في عساكر المغل ومعه أخوه قطقطو وأمره بالمسير من جهة سيس فسار لذلك. ثم حدثته نفسه بالملك فخاضع وطلب الملك لنفسه وكاتب ابن قزمان أمير التركمان فسار إليه في عشرة آلاف فارس. وسار في ستين ألف فارس وسار إلى سيواس فامتنعت عليه وكتب إلى صاحب مصر مع خلص الرومي يستنجده فبعث إلى نائب دمشق بإنجاده وبلغ الخبر غازان فبعث لقتاله مولاي من أمراء التتر في خمسة وثلاثين ألف فارس ولحقه إلى سيواس فانتقض عليه العسكر ورجع التتر إلى مولاي. ولحق التركمان بالجبال ولحق هو بسيس في فل من العسكر وسار إلى دمشق ثم إلى مصر وسأل من السلطان لاشين أن يمده بعسكر ينقل به عياله إلى الشام فأمر السلطان نائب حلب أن ينجده على ذلك فبعث معه عسكراً عليهم بكتمر الحلبي وساروا إلى سيواس فاعترضهم التتر وهزموهم وقتل الحلبي ونجا شلامش إلى بعض القلاع فاستنزله غازان وقتله واستقر أخوه قطقطو ومخلص بمصر وأقطع لهما وانتظما في عسكر مصر والله تعالى أعلم. قد كنا قدمنا ما حدث من الوحشة بين التتر وبين الترك بمصر وقدمنا من أسبابها ما قدمناه. فلما بويع الناصر بلغه أن غازان زاحف إلى الشام فتجهز وقدم العساكر مع قطلبك الكبير وسيف الدين غزار. وسار على أثرهم آخر سنة ثمان وسبعين وانتهى إلى غزة فنمي إليه أن بعض المماليك مجمعون للتوثب عليه وأن الأربدانية الذين وفدوا من التتر على كتبغا داخلوهم في ذلك. وبينما هو يستكشف الخبر إذ بمملوك من أولئك قد شهر سيفه وأخرق صفوف العسكر وهم مصطفون بظاهر غزة فقتل لحينه وتتبع أمرهم من هذه البادرة حتى ظهرت جليتها فسبق الأربدانية ومقدمهم طرنطاي وقتل بعض المماليك وحبس الباقين بالكرك. ورحل السلطان إلى عسقلان ثم إلى دمشق. ثم سار ولقي غازان ما بين سلمية وحمص بمجمع المروج ومعه الكرج والأرمن وفي مقدمته أمراء الترك الذين هربوا من الشام وهم قفجق المنصوري وبكتمر السلحدار وفارس الدين ألبكي وسيف الدين غزار فكانت الجولة منتصف ربيع فانهزمت ميمنة التتر وثبت غازان. ثم حمل على القلب فانهزم الناصر واستشهد كثير من الأمراء وفقد حسام الدين قاضي الحنفية وعماد الدين إسماعيل ابن الأمير وسار غازان إلى حمص فاستولى على الذخائر السلطانية. وطار الخبر إلى دمشق فاضطربت العامة وثار الغوغاء وخرج المشيخة إلى غازان يقدمهم بدر الدين بن جماعة وتقي الدين بن تيمية وجلال الدين القزويني. وبقي البلد فوضى وخاطب المشيخة غازان في الأمان فقال قد خالفكم إلى بلدكم كتاب الأمان. ووصل جماعة من أمرائه فيهم إسماعيل ابن الأمير والشريف الرضي وقرأ كتاب الأمان ويسمونه بلغاتهم الفرمان. وترجل الأمراء بالبساتين خارج البلد وامتنع علم الدين سلحدار بالقلعة فبعث إليه إسماعيل يستنزله بالأمان فامتنع فبعث إليه المشيخة من أهل دمشق فزاد امتناعاً ودس إليه الناصر بالتحفظ. وأن المدد على غزة ووصل قفجق بكتمر فنزلوا الميدان وبعثوا إلى سنجر صاحب القلعة في الطاعة فأساء جوابهم وقال لهم إن السلطان وصل وهزم عساكر التتر التي اتبعته. ودخل قفجق إلى دمشق فقرأ عهد غازان له بولاية دمشق والشام جميعاً وجعل إليه ولاية القضاء وخطب لغازان في الجامع وانطلقت أيدي العساكر في البلد بأنواع جميع العيث وكذا في الصالحية والقرى التي بها والمزة وداريا. وركب ابن تيمية إلى شيخ الشيوخ نظام الدين محمود الشيباني. وكان نزل بالعادلية فأركبه معه إلى الصالحية وطردوا منها أهل العيث وركب المشيخة إلى غازان شاكين فمنعوا من لقائه حذراً من سطوته بالتتر فيقع الخلاف ويقع وبال ذلك على أهل البلد. فرجعوا إلى الوزير سعد الدين ورشد الدين فأطلقوا لهم الأسرى والسبي. وشاع في الناس أن غازان أذن للمغل في البلد وما فيه ففزع الناس إلى شيخ الشيوخ وفرضوا على أنفسهم أربعمائة ألف درهم مصانعة له على ذلك وأكرهوا على غرمها بالضرب والحبس حتى كملت. ونزل التتر بالمدرسة العادلية فأحرقها أرجواش نائب القلعة ونصب المنجنيق على القلعة بسطح جامع بني أمية فأحرقوه فأعيد عمله. وكان المغل يحرسونه فانتهكوا حرمة المسجد بكل محرم من غير استثناء وهجم أهل القلعة فقتلوا النجار الذي كان يصنع المنجنيق وهدم نائب القلعة أرجواش ما كان حولها من المساكن والمدارس والأبنية ودار السعادة وطلبوا ما لا يقدرون عليه وامتهن القضاة والخطباء وعطلت الجماعات والجمعة وفحش القتل والسبي وهدمت دار الحديث وكثير من المدارس. ثم قفل إلى بلده بعد أن ولي على دمشق والشام قفجق وعلى حماة بكتمر السلحدار وعلى صفد وطرابلس والساحل فارس الدين ألبكي وخلف نائبه قطلوشاه في ستين ألفاً حامية للشام واستصحب وزيوه بدر الدين بن فضل الله وشرف الدين ابن الأمير وعلاء الدين بن القلانسي. وحاصر قطلوشاه القلعة فامتنعت عليه فاعتزم على الرحيل وجمع له قفجق الأوغاد في جمادى من السنة وبقي قفجق منفرداً بأمره فأمن الناس بعض الشيء وأمر مماليكه ورجعت عساكر التتر من اتباع الترك بعد أن وصلوا إلى القدس وغزة والرملة واستباحوا ونهبوا وقائدهم يومئذ مولاي من أمراء التتر فخرج إليه ابن تيمية واستوهبه بعض الأسرى فأطلقهم. وكان الملك الناصر لما وصل إلى القلعة ووصل معه كتبغا العادل وكان حضر معه المعركة من محل نيابته بصرخد. قلما وقعت الهزيمة سار مع السلطان إلى مصر وبقي في خدمة النائب سلار وجرد السلطان العساكر وبث النفقات وسار إلى الصالحية وبلغه رحيل غازان عن الشام. ووصل إليه بليان الطباخي نائب حلب على طريق طرابلس وجمال الدين الأفرم نائب دمشق وسيف الدين كراي نائب طرابلس. واتفق السلطان في عساكرهم وبلغه أن قطلوشاه نائب غازان وحل من الشام على أثر غازان فتقدم بيبرس وسار في العساكر ووقعت المراسلة بينه وبين قفجق وبكتمر والبكى فأذعنوا للطاعة ووصلوا إلى بيبرس وسلار فبعثوا بهم إلى السلطان وهو في الصالحية في شعبان من السنة فركب للقائهم وبالغ في تكرمتهم والإقطاع لهم. وولى قفجق على الشوبك ورحل عائداً إلى مصر. ودخل بيبرس وسلار إلى مصر وقرروا في ولايتها جمال الدين أقوش الأفرم بدمشق وفي نياية حلب قرا سنقر المنصوري الجوكندار لاستعفاء بليان الطباخي عنها وفي طرابلس سيف الدين قطلبك وفي حماة كتبغا العادل وفي قضاء دمشق بدر الدين بن جماعة لوفاة إمام الدين بن سعد الدين القزويني. وعاد بيبرس وسلار إلى مصر منتصف شوال وعاقب الأفرم كل من استخدم للتتر من أهل دمشق. وأغزى عساكره جبل مروان والدرزية لما نالوا من العسكر عند الهزيمة وألزم أهل دمشق بالرماية وحمل السلاح. وفرضت على أهل دمشق ومصر الأموال عن بعث الخيالة والمسكن لأربعة أشهر وضمان للقرى وكثر الأرجاف سنة سبعمائة بحركة التتر فتوجه السلطان إلى الشام بعد أن فرض على الرعية أموالاً واستخرجها لتقوية عساكره. وأقام بظاهر غزة أياماً يؤلف فيها الأمصار. ثم بعث ألفي فارس إلى دمشق وعاد إلى مصر منسلخ ربيع الآخر. وجاء غازان بعساكره وأجفلت الرعايا أمامه حتى ضاقت بهم السبل والجهات فنزل ما بين حلب ومرس ونازلها واكتسح البلاد إلى إنطاكية وجبل السمر وأصابهم هجوم البرد وكثرة الأمطار والوحل وانقطعت الميرة عنهم وعدمت الأقوات وصوعت المراعي من كثرة الثلج وارتحلوا إلى بلادهم. وكان السلطان قد جهز العساكر كما قلنا إلى الشام صحبة بكتمر السلحدار نائب صفد وولى مكانه سيف الدين فنحاص المنصوري. ثم وقعت المراسلة بين السلطان الناصر وبين غازان وجاءت كتبه وبعث الناصر كتبه ورسله وولى السلطان على حمص فارس الدين البكي والله سبحاه وتعالى أعلم.
والغزاة إلى العرب بالصعيد ثم توفي الخليفة الحاكم بأمر الله أحمد وهو الذي ولاه الظاهر وبايع له سنة ستين فتوفي سنة إحدى وسبعمائه لإحدى وأربعين سنة من خلافته وقد عهد لابنه أبي الربيع سليمان فبايع له الناصر ولقبه المستكفي وارتفعت شكوى الرعايا في الصعيد من الأعراب وكثر عيثهم فجهز إليهم السلطان العساكر مع شمس الدين قرا سنقر فاكتسحهم. وراجعوا الطاعة وقرر عليهم مالاً حملوه ألف ألف وخمسمائة ألف درهم وألف فرس واحداً وألفي جمل اثنين وعشرة آلاف من الغنم. وأظهروا الإستكانة ثم أظهروا النفاق فسار إليهم كافل المملكة سلار وبيبرس في العساكر فاستلحموهم وأبادوهم وأصابوا أموالهم ونعمهم ورجعوا. وأستأذن بيبرس في قضاء فرضه فخرج حاجاً وكان أبو نمي أمير مكة قد توفي وقام بأمره في مكة ابناه رميثة وخميصة واعتقلا أخويهما عطيفة وأبا الغيث فنقبا السجن وجاءا إلى بيبرس مستعدين على أخويهما فقبض عليهما بيبرس وجاء بهما إلى القاهرة. وفي سنة ستين وسبعمائة بعدها خرجت الشواني مشحونة بالمقاتلة إلى جزيرة أرواد في بحر طرطوس وبها جماعة من الإفرنج قد حصنوها وسكنوها فملكوها وأسروا أهلها وخربوها وأذهبوا آثارها والله تعالى ولي انتوفيق.
حضر في سنة سبعمائة وزير من المغرب في غرض الرسالة فرأى حال أهل الذمة وترفهم وتصرفهم في أهل الدولة فنكره وقبح ذلك واتصل بالسلطان نكيره فأمر بجمع الفقهاء للنظر في الحدود التي تقف عندها أهل الذمة بمقتضى عهود المسلمين لهم عند الفتح وأجمع الملأ فيهم على ما نذكر وهو أن يميز بين أهل الذمة بشعار يخصهم فالنصارى بالعمائم السود واليهود بالصفر والنساء منهن بعلامات تناسبهن. وأن لا يركبوا فرساً ولا يحملوا سلاحاً إذا ركبوا الحمير يركبونها عرضاً ويتنحون وسط الطريق ولا يرفعوا أصواتهم فوق صوت المسلمين ولا يعلوا بناءهم على بناء المسلمين ولا يظهروا شعائرهم ولا يضربوا بالنواقيس ولا ينصروا مسلماً ولا يهودوه ولا يشتروا من الرقيق مسلماً ولا من سباة مسلم ولا من جرت عليه سهام المسلمين. ومن دخل منهم الحمام يجعل في عنقه جرساً يتميز به. ولا ينقشوا فص الخاتم بالعربي ولا يعلموا أولادهم القرآن ولا يخدموا أعمالهم الشاقة مسلماً. ولا يرفعوا النيران. ومن زنى منهم بمسلمة قتل. وقال البطرك بحضرة العدول حرمت على أهل ملتي وأصحابي مخالفة ذلك والعدول عنه. وقال رئيس اليهود أوقعت الكلمة على أهل ملتي وطائفتي وكتب بذلك إلى الأعمال. ولنذكر في هذا الموضع نسخة كتاب عمر بالعهد لأهل الذمة بعد كتاب نصارى الشام ومصر ونصه هكذا كتاب لعبد لله عمر أمير المؤمنين من نصارى أهل الشام ومصر لما قدمتم علينا سألناك الأمان لأنفسنا وذرارينا وأموالنا وأهل ملتنا وشرطنا على منا أن لا نحدث في مدائننا ولا فيما حولها ديراً ولا كنيسة ولا علية ولا صومعة راهب ولا نجدد ما خرب منها ولا ما كان في خطط. وأن نوسع أبوابنا للمارة ولبني السبيل وأن ننزل من مر بنا من المسلمين ثلاث ليال نطعمهم ولا نؤوي في كنائسنا ولا في منازلنا جاسوساً ولا نكتم عيباً للمسلمين ولا نعلم أولادنا القرآن ولا نظهر شرعنا ولا ندعو إليه أحداً ولا نمنع أحداً من ذي قرابتنا الدخول في دين الإسلام إن أرادوه. وأن نوقر مسلمين ونقوم لهم في مجالسنا إذا أرادوا الجلوس ولا نتشبه بهم في شيء من سهم في قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر ولا نتسمى بأسمائهم ولا نتكناهم ولا نركب السروج ولا نتقلد بالسيوف ولا نتخذ شيئاً من السلاح ولا نحمله معنا ولا ننقش على خواتمنا بالعربية. وأن نجر مقدم رؤوسنا ونكرم نزيلنا حيث كنا وأن نشد الزنانير على أوساطنا ولا نظهر صلباننا ولا نفتح كنفنا في طريق المسلمين ولا أسواقهم ولا نضرب بنواقيسنا في شيء من حضرة المسلمين ولا نخرج شعانيننا ولا طواغيتنا. ولا نرفع أصواتنا مع موتانا ولا نوقد النيران في طرق المسلمين ولا أسواقهم ولا نجاورهم بموتانا ولا نتخذ من الرقيق ما جرت عليه سهام المسلمين ولا نطلع في منازلهم ولا نعلي منازلنا. فلما أتي عمر بالكتاب زاد فيه. ولا نضرب أحداً من المسلمين شرطنا ذلك على أنفسنا وأهل ملتنا وقبلنا عليه الأمان فإن نحن خالفنا في شيء مما شرطنا لكم علينا وضمناه على أنفسنا وأهل ملتنا فلا ذمة لنا عليكم وقد حل بنا ما حل بغيرنا من أهل المعاندة والشقاق. فكتب عمر رضي الله عنه أمض ما سألوه وألحق فيه حرفاً اشترطه عليهم مع ما اشترطوه من ضرب مسلماً عمداً فقد خلع عهده. وعلى أحكام هذا الكتاب جرت فتاوى الفقهاء في أهل الذمة نصاً وقياساً. وأما كنائسهم فقال أبو هريرة أمر عمر بهدم كل كنيسة استحدثت بعد الهجرة ولم يبق إلا ما كان قبل الإسلام. وسير عروة بن محمد فهدم الكنائس بصنعاء وصالح القبط على كنائسهم وهدم بعضها ولم يبق من الكنائس إلا ما كان قبل الهجرة. وفي إباحة رمها وإصلاحها لهم خلاف معروف بين الفقهاء والله تعالى ولي التوفيق. ثم تواترت الأخبار سنة اثنتين وسبعمائة بحركة التتر وأن قطلو شاه وصل إلى جهة الفرات وأنه قدم كتابه إلى نائب حلب بأن بلادهم محلة وأنهم يرتادون المراعي بنواحي الفرات فخادع بذلك عن قصده ويوهم الرعية أن يجفلوا من البسائط. ثم وصلت الأخبار بإجازتهم الفرات فأجفل الناس أمامهم كل ناحية ونزل التتر مرعش. وبث العساكر من مصر مدداً لأهل الشام فوصلوا إلى دمشق وبلغهم هنالك أن السلطان قازان وصل في جيوش التتر إلى مدينة الرحبة ونازلها فقدم نائبها قرى وعلوفة واعتذر له بأنه في طاعته إلى أن يرد الشام فإن ظفر به فالرحبة أهون شيء وأعطاه ولده رهينة على ذلك فأمسك عنه ولم يلبث أن عبر الفرات راجعاً إلى بلاده. وكتب إلى أهل الشام كتاباً مطولاً ينذرهم فيه أن يستمدوا عسكر السلطان أو يستجيشوه ويخادعهم بلين القول وملاطفته وتقدم قطلو شاه وجوبان إلى الشام بعساكر التتر يقال في تسعين ألفاً أو يزيدون. وبلغ الخبر إلى السلطان فقدم العساكر من مصر وتقدم بيبرس كافل المملكة إلى الشام والسلطان وسلار على أثره ومعهم الخليفة أبو الربيع. وساروا في التعبية. وفى خل بيبرس دمشق وكان النائب بحلب قرا سنقر المنصوري وقد اجتمع إليه كتبغا العادل نائب حماة وأسد الدين كرجي نائب طرابلس بمن معهم من العساكر فأغار التتر على القريتين وبها أحياء من التركمان كانوا أجفلوا أمامهم من الفرات فاستاقوا أحياءهم بما فيها وأتبعهم العساكر من وزحف قطلو شاه وجوبان بجموعهما إلى دمشق يظنان أن السلطان لم يخرج من مصر والعساكر والمسلمون مقيمون بمرج الصفر وهو المسمى بشقحب مع ركن الدين بيبرس ونائب دمشق أقوش الأفرم ينتظرون وصول السلطان فارتابوا لزحف التتر وتأخروا عن مراكزهم قليلاً وارتاعت الرعايا من تأخرهم فأجفلوا إلى نواحي مصر. وبينما هم كذلك إذ وصل السلطان في عساكره وجموعه غرة رمضان من السنة فرتب مصافه وخرج لقصدهم فالتقى الجمعان بمرج الصفر وحمل التتر على ميمنة السلطان فثبت الله أقدامهم وصابروهم إلى أن غشيهم الليل واستشهد جماعة في الجولة. ثم انهزم التتر ولجأوا إلى الجبل يعتصمون به واتبعهم السلطان فأحاط بالجبل إلى أن أظل الصباح. وشعر المسلمون باستماتتهم فأفرجوا لهم من بعض الجوانب وتسلل معظمهم مع قطلوشاه وجوبان وحملت العساكر الشامية على من بقي منهم فاستلحموهم وأبادوهم. وأتبعت الخيول آثار المنهزمين وقد اعترضتهم الأحوال بما كان السلطان قدم إلى أهل الأنهار بين أيديهم فبثقوها ووحلت خيولهم فيها فاستوعبوهم قتلاً وأسراً. وكتب السلطان إلى قازان بما يجدد عليه الحسرة ويملأ قلبه رعباً وبعث البشائر إلى مصر. ثم دخل إلى دمشق وأقام بها عيد الفطر وخرج لثالثه منها إلى مصر فدخلها آخر شوال في موكب حفل ومشهد عظيم وقر الإسلام بنصره وتيمن بنقيب نوابه وأنشده الشعراء في ذلك. وفي هذه السنة توفي كتبغا العادل نائب حماة وهو الذي كان ولي الملك بمصر كما تقدم ذكره فدفن بدمشق. وتوفي أيضاً بليان الجو كندار نائب حمص. وتوفي أيضاً القاضي تقي الدين بن دقيق العيد بمصر لولايته ست سنين بها وولي مكانه بدر الدين بن جماعة. وهلك قازان ملك التتر يقال أصابته حمى حادة للهزيمة التي بلغته فهلك وولي أخوه خربندا. وفيها أفرج السلطان عن رميثة وحميصة ولدي الشريف أبي نمي وولاهما بدلاً من أخويهما عطيفة وأبي الغيث والله تعالى أعلم. أخبار الأرمن أخبار الأرمن وغزو بلادهم وادعاؤهم الصلح ثم مقتل ملكهم صاحب سيس على يد التتر قد كان تقدم لنا ذكر هؤلاء الأرمن وإنهم وأخوتهم الكرج من ولد قويل بن ناحور بن آزر وناحور أخو إبراهيم عليه السلام. وكانوا أخذوا بدين النصرانية قبل الملة وكانت مواطنهم أرمينية وهي منسوبة إليهم. وقاعدتها خلاط وهي كرسي ملكهم ويسمى ملكهم النكفور. ثم ملك المسلمون بلادهم وضربوا الجزية على من بقي منهم واختلف عليهم الولاة ونزلت بهم الفتن وخربت خلاط فانتقل ملكهم إلى سيس عند الدروب المجاورة لحلب وانزووا إليها وكانوا يؤذون الضريبة للمسلمين. وكان ملكهم لعهد نور الدين العادل قليج بن اليون وهو صاحب ملك الدروب واستخدم للعادل وأقطع له وملك المصيصة وأردن من يد الروم. وأبقاه صلاح الدين بعد العادل نور الدين على ما كان عليه من الخدمة. وغدر في بعض السنين بالتركمان فغزاهم صلاح الدين وأخنى عليهم حتى أذعنوا ورجع إلى حاله من أداء الجزية والطاعة وحسن الجوار بثغور حلب. ثم ملكها لعهد الظاهر هيثوم بن قسطنطين بن يانس ويظهر أنه من أعقاب قليج أو من أهل بيته. ولما ملك هلاكو العراق والشام دخل هيثوم في طاعته وأقره على سلطانه وأجلب مع التتر في غزواتهم على الشام. وغزا سنة اثنتين وستين صاحب بلاد الروم من التتر واستنفر معه بني كلاب من أعراب حلب. وعاثوا في نواحي عنتاب. ثم ترهب هيثوم بن قسطنطين ونصب ابنه ليون للملك. وبعث الظاهر العساكر سنه أربع وستين ومعه قلاوون المنصور صاحب حماة إلى بلادهم فلقيهم ليون في جموعه قبل الدربند فانهزم وأسر وخرب العساكر مدينة سيس. وبذل هيثوم الأموال والقلاع في فداء ابنه ليون فشرط عليه الظاهر أن يستوهب سنقر الأشقر وأصحابه من أبغا بن هلاكو. وكان هلاكو أخذهم من سجن حلب فاستوهبهم وبعث بهم وأعطى خمساً من القلاع منها رغبان ومرزبان لما توفي هيثوم سنة تسع وستين. وملك بعده ابنه ليون وبقي الملك في عقبه. وكان بينهم وبين الترك نفرة واستقامة لقرب جوارهم من حلب. والترك يرددون العساكر إلى بلادهم حتى أجابوا بالصلح على الطاعة والجزية وشحنة التتر مقيم عندهم بالعساكر من قبل شحنة بلاد الروم. ولما توفي ليون ملك بعده ابنه هيثوم ووثب عليه أخوه سنباط فخلعه وحبسه بعد أن سمل عينه الواحدة وققل أخاهما الأصغر يروس. ونازلت عساكر الترك لعهده قلعة حموض من قبل العادل كتبغا فاستضعف الأرمن سنباط وهموا به فلحق بالقسطنطينية وقدموا عليهم أخاه رندين فصالح المسلمين وأعطاهم مرعش وجميع القلاع على جيحان وجعلوها تخماً ورجعت العساكر عنهم. ثم أفرج رندين عن أخيه هيثوم الأعور سنة تسع وستين فأقام معه قليلاً. ثم وثب برندين ففر إلى القسطنطينية. وأقام هيثوم بسيس في ملك الأرمن وقدم ابن أخيه تروس معسول أتابكاً واستقامت دولته فيهم. وسار مع قازان في وقعته مع الملك الناصر فعاث الأرمن في البلاد واستردوا بعض قلاعهم وخربوا تل حمدون. فلما هزم الناصر التتر سنة اثنتين وسبعمائة بعث العساكر إلى بلادهم فاسترجعوا القلاع وملكوا حمص واكتسحوا بسائط سيس وما إليها ومنع الضريبة المقررة عليهم فأنقذ نائب حلب قرا سنقر المنصوري سنة سبع وستمائة العساكر إليهم مع أربعة من الأمراء فعاثوا في بلادهم. واعترضهم شحنة التتر بسيس فهزموهم وقتل أميرهم وأسر الباقون. وجهز العساكر من مصر مع بكتاش الفخري أمير سلاح من بقية البحرية وانتهوا إلى غزة وخشي هيثوم مغبة هذه الحادثة فبعث إلى نائب عب بالجزية التي عليهم لسنة خمس وقبلها. وتوسل بشفاعته إلى السلطان فشفعه وأمنه وكان شحنة التتر ببلاد الروم لهذا العهد أرفلي وكان قد أسلم لما أسلم أبغا وبنى مدرسة بإذنه وشيد فيها مئذنة. ثم حدث بينه وبين هيثوم صاحب سيس وحشة فسعى فيه هيثوم عند خربندا ملك التتر بأنه مداخل لأهل الشام وقد واطأهم على ملك سيس وما إليها وشهد له بالمدرسة والمئذنة وكتب بذلك إلى أرفلي بعض قرابته فأسرها في نفسه واغتاله في صنيع دعاه إليه. وقبض على وافد من مماليك الترك كان عند هيثوم من قبل نائب حلب يطلب الجزية المقررة عليه وهو ايدغدي الشهرزوري. ولم يزل في سجن التتر إلى أن فر من محبسه بتوريز سنة عشر وسبعمائة. ونصب لملك سيس أوشني بن ليون وسار أرفلي إلى خربندا بفسابقه ألتاق أخو هيثوم بنسائه وولده مستعدين عليه فتفجع لهم خربندا وسط أرفلي وقتله وأقر أوشين أخاه في ملكه لسيس فبادر إلى مراسلة الناصر بمصر وتقرير الجزية عليه كما كانت وما زال يبعثها مع الأحيان والله
|